تريم تاريخ وحضارة
تعد المدينة عاصمة الوادي الدينية حيث كانت ولا تزال مركزا يشع منه نور العلم والمعرفة ومركز اشعاع ديني منذ ظهور الاسلام حيث اقيمت الأربطة الدينية ومراكز تعليم وتحفيظ القرآن الكريم وتدريس الفقه الاسلامي وغيرها من فروع العلوم الدينية ،وكان طلاب العلم يتوافدون من المناطق اليمنية والدول المجاورة والشرق الاقصى وشرق افريقيا حيث ساعد على ذلك كثرة علمائها وزواياها العامرة بالتدريس .ومن أهم مراكزها العلمية القديمة التي لازال نشاطها مستمرا حتى اليوم ( رباط تريم العلمي ) الذي افتتح في 14 محرم 1305هـ و (معلامة أبي مريم لتحفيظ القرآن الكريم) التي انشئت في القرن الـ الهجري.تشتهر مدينة تريم بكثرة مساجدها التي شاع سابقا بأن عددها يصل الى ثلاثمائة وستين مسجدا بعدد أيام السنة ولكن عدد المساجد المعمورة فيها اليوم يتجاوز المائة بقليل كما اشتهرت المدينة بانتشار أشجارالنخيل في مزارعها وحدائق بيوتها ومنتزهاتها وبأصناف شتى ونظرا لانتشار المزارع والحدائق والمنتزهات سميت المدينة بتريم الغنّاء.
مع بدايات القرن الثاني عشر الهجري هاجر العديد من أبناء البلدة الى أفريقيا وجنوب شرق آسيا حيث عملوا على نشر الدين الاسلامي الحنيف في هذه البلدان واستقروا فيها وعملوا بالتجارة وكونوا لهم هناك ثروات طائلة ثم عاد بعضهم الى تريم وشيدوا فيها العديد من البيوت التي هي الى القصور أقرب ،ذات طراز كولونيالي ضخم متأثرة بالعمارة السائدة في جنوب شرق آسيا آنذاك من حيث الأقواس والنقوش العمرانية وكانت مادة البناء التقليدية في حضرموت منذ القدم والى الآن هي مادة الطين حيث صنع منها البناؤون المدر ،وقد اشتهر عمال وبنائي تريم بالأخص من بين أهالي حضرموت في مهنة البناء حيث طوعوا مادة الطين لتعطي أشكالا وزخارف معمارية لا يصدق المرء أنها من مادة الطين ولذلك أصبحت تريم اليوم تزهو بقصورها الساحرة الباهرة التي من أجملها وأعظمها قصر عشة لآل الكاف وقصر المنيصورة لآل بن يحيى وكذلك بمآذن مساجدها المتنوعة والمختلفة المنتشرة في كل مكان ولعل أشهرها على الاطلاق مأذنة مسجد عمر المحضار التي تعتبر آية في الابداع المعماري والتصميم والتنفيذ الهندسي حيث نفذت من الطين والتبل وبأيادي تريمية ويبلغ ارتفاعها حوالي 170 قدما وشيدت أوئل القرن الرابع عشر الهجري وتعد أطول مأذنة أو منارة مبنية من الطين في العالم. كذلك بالاضافة الى مخطوطاتها الثمينة والنادرة التي تم تجميعها من المكتبات الخاصة ووضعها في مكتبة الاحقاف للمخطوطات والتي أفتتحت عام 1972م وتحوي مايزيد عن خمسة آلاف مخطوطة، كل ذلك هيأ المدينة لتتبوأ مكانة سياحية عظيمة يتهافت السياح لزيارتها من مختل بقاع الأرض.وقد سميت تريم بهذا الاسم حسب ما جاء في كتاب (معجم البلدان) لياقوت الحموي ،أن تريم احدى مدينتي حضرموت.. لأن حضرموت اسم للناحية بجملتها ومدينتيها شبام وتريم هما قبيلتين سميت المدينتين باسميهما. وقال مرتضى الزبيدي في كتابه (تاج العروس) : تريم سميت باسم بانيها - تريم بن حضرموت - ويؤكد المؤرخون العرب أن مدينة تريم كان اختطاطها في القرن الرابع قبل الميلاد ،وجاء في (معالم تاريخ الجزيرة العربية) للاستاذ سعيد عوض باوزير (أن تريم كان تأسيسها في عهد الحكم السبئي لحضرموت وأنها سميت باسم احد أولاد سبأ الأصغر أو باسم القبيلة التي من تريم هذا).وهناك رأي آخر يقول : أن تريم أختطت في زمن (أسعد الكامل) من التبابعة الحميريين وهو انما كان في القرن الرابع الميلادي ويقرب من هذا الاتجاه ما جاء في كتاب (شروح الصدور) للسيد علي بن عبد الرحمن المشهور من ان حصن الرناد بني قبل البعثة المحمدية بأربعمائة عام.
أما بالنسبة لتحديد المدينة القديمة فقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الله الخطيب في كتابه (برد النعيم) "ان أصل مدينة تريم القديمة الخليف والأزرة وهما حارتان متصلتان بالحصن والسوق النجدية" فمدينة تريم قديما عبارة عن ما يقع حول حصن الرناد أي انها لاتتجاوز من الغرب مابين مقبرة الفريط جنوبا ومسجد باجرش شمالا ومن الشرق مابين مسجد عاشق المعروف سابقا بمسجد آل أبي حاتم جنوبا ومسجد باعلوي شمالا.وتشغل الآن هذه الحارة القسم الأوسط من المدينة حيث نجدها بعد ذلك قد اتسعت وتطورت.
ولتسليط الضوء على حصن الرناد الذي يشكل مركز المدينة حالياً نقدم هذه المعلومات البسيطة : فهو يقع بين حارة الأزره إلى الشرق والسوق وحي الخليف إلى الغرب ، في ساحة المدينة الرئيسية عند مدخل السوق وقرب المسجد الجامع وقد بني على أنقاض حصن قديم يرجع تاريخه إلى ما قبل ظهور المسيح . إتخذت الدول المتعاقبة على تريم الحصن مقراً للحكم من عهد ما قبل الإسلام وما بعده وقام السلطان عبد الله بن راشد القحطاني عام 600هـ – 1203م بتجديد بناء الحصن وظل بعد ذلك التاريخ يشهد تحسيناً وتبديلاً متواصلين . ففي عام 1350هـ – 1931م أمر حاكم تريم محمد بن محسن الكثيري بأن يهدم ويعاد بناء بعض أقسامه بالشكل الذي نراه اليوم وخلال إعادة البناء تلك تم العثور على تمثال رخامي أبيض عليه خط مسندي ولكن لم تجر حفريات لاحقة للتحقق من التاريخ الدقيق الفعلي لبناء الحصن .
أما بعد ظهور شمس الإسلام فقد إعتنق أهالي تريم الإسلام عندما عاد وفد حضرموت من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة في السنة العاشرة من الهجرة وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم أول عامل على حضرموت من قبله وهو زياد بن لبيد البياضي الأنصاري وكان يقيم بتريم تارة وبشبام تارة أخرى وعندما جاءه كتاب الخليفة الأول أبي بكر الصديق قرأه على أهل تريم فبايعوا لأبي بكر الصديق وإرتد نفر من كنده فقاتلتهم جيوش المسلمين ولأهل تريم ممن ثبتوا على إسلامهم دور في قتال المرتدين إذ كانت المعركة الفاصلة التي انتصر فيها جيش المسلمين بحصن النجير الواقع شرقي تريم بحوالي 30 كلم وجرح في هذه المعركة عدد من الصحابة فجاؤوا إلى تريم للتداوي بها فماتت جماعه منهم ودفنوا بمقبرة زنبل شرقي قبر الإمام الفقيه المقدم محمد بن علي باعلوي . بقيت تريم كحضرموت واليمن عامة منطوية تحت راية الدولة الإسلامية الواحدة أيام الخلافة الراشدة ثم دولة بني امية حتى أقام طالب الحق الكندي بثورته عليهم سنة 129هـ ودخلت تريم كغيرها تحت حكم الدولة الأباضية إلى قيام أول دولة سنية بها في مطلع القرن الخامس الهجري وهي دولة آل راشد وأشهر سلاطينهم السلطان العادل عبدا لله بن راشد المتوفى في سنة 616هـ وإليه ينسب وادي حضرموت الرئيسي فيقال وادي إبن راشد .ومن المعروف إن هذه الفترة مليئة بالأحداث حيث تعاقبت على المدينة الكثير من الدويلات إبتداءاً بدخول الإسلام إلى مدينة تريم حتى سقوط الدولة الكثيرية . وأقيمت في هذه الفترة القلاع التاريخية فوق سفوح الجبال كما إزداد عدد المساكن في المنطقة الوسطى من المدينة . كما بنيت جبّانة تريم سنة 566هـ ، ومن أجل درء الأخطار وإسستتاب الأمن أقيم سور المدينة الذي يعد معلماً بارزاً من معالمها ، وهذا السور طرأ عليه كثير من التجديدات والتغييرات ففي عام 601هـ قام عبدا لله بن راشد ببناءه حول المدينة وفي عام 895هـ هدمه عبدا لله بن راصع ثم أعاده أحمد بن محمد راصع عام 913هـ وأحكمه وعمل له ثلاث بوابات ، الأولى من جهة الجنوب عند البئر المسماة عاسل والثانية من جهة الشرق عند حارة آل شريف والثالثة من جهة الشمال عند حارة القارص.
في القرن الثالث عشر للهجرة جددت عمارة السور وسورت الجهة حول حارة عيديد كما شهدت مدينة تريم حركة عمرانية ملحوظة ولا سيما جهة الشمال والمتمثلة في حارتي النويدرة والسحيل ولكن بالرغم من ذلك ظلت مساحة المدينة محدودة وإقتصرت حركتها التجارية على السوق القديم لفترة طويلة وظلت الحياة صعبه والحركة محدودة . حيث تعيش داخل سورها وتقفل أبوابها في المساء حتى صباح اليوم التالي . أما الأراضي التي كانت تقع خارج السور فأغلبها زراعية تتميز بالإنبساط والتربة الخصبة لذا أستغلت في مجال الإنتاج الزراعي وفي أواخر هذه الفترة بلغت الحركة العمرانية أوج تطورها في نطاق رقعة المدينة دون دخول أي توسع حيث كان لعامل الهجرة إلى سنغافورة وإندونيسيا أعظم الأثر في ذلك حيث أدخل طرازاً وفناً معمارياً جديداً والمتمثل في قصور تريم ( سبق شرح ذلك ) حيث إنتشر بعضها إلى خارج السور . مع بداية القرن العشرين بدأت الحياة المدنية الحديثة تدب في أوصال المدينة حيث وصلت أول سيارة إلى تريم من المكلا عام 1920م على ظهور الجمال مفككة ثم تم تركيبها في تريم فبدأت عمليات شق ورصف الطرق وتوسيعها وبدأت المشاريع الأهلية للمياه والكهرباء ومحطات الوقود تقام بالمدينة إلى أن تم إستقلال جنوب اليمن فتوسعت المدينة عمرانياً وبدأ البناء خارج سور المدينة وتم ربط تريم بسيئون والمكلا وغيرها من المدن بشبكة من الطريق المرصوفة ثم المسفلتة وأدخلت خدمات الهاتف ووسائل الإتصالات الحديثة كما تواصل دور مدينة تريم الريادي كمركز اشعاع ديني باعادة افتتاح رباط تريم الديني مع تباشير الوحدة اليمنية المباركة مع العديد من المعاهد والمراكز الدينية .
المصدر : http://www.tareem.org/Details.aspx?ID=346
مع تحيات خليل الشريحي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق